النأي الحزين والكلمة الممزوجة بدم الفؤاد وشفافية الروح في لحظة تجليها
وتحليقها في متاه لا متناهي
وفضاء لا يدركه البصر ولا تمنعه الشواهق
عندما يمتزج الضد بضده والبسمة بدموع اللوعة وتصتدم الأماني بمعوقات النماء
عندها تنساب أحاسيس الشاعر وتعبّر مفرداته عن مكنونه وتصارع المتناقضات داخل أعماقه الأمميه
هذا المزيج المتداخل يكاد يشكل كيان كثير من أصحاب الشعور المرهف
والحلم العريض والواقع المر
فكان فنهم وشعرهم وسيرة حياتهم تراكم من ذلك كله
و
غرم بن هادي بن علي المشهور
بالقلف لم يكن كغيره من أبناء جيله
والذين عاشوا بجواره لا يعرف من الحياة إلأ ما يسيّر به يومه وليلته
ويشبع حاجته بل كانت له ذات باسمة في مكنونها تعشق الجمال وتتطلع إلى البعيد
وتنشد التطور والارتقاء لكن ظروف واقعه ورتابة النمط وتكرره
مع جفاء الطبيعة وشح العطاء وغلبة المكتوب على واسع الرجاء
أظهرت داخل الرجل مواهب مدفونة مزج فيها بين إشراق الذات
وتناقضات الواقع فتحولت قصائده ومفرداته وسيرته اليومية
إلى لوحة سريالية تجمع بين فن العمق وحب الجمال والسخرية من الواقع
وكأنه كان يحاكي عن بعد (من غير علم له بهم ) بيرم التونسي والشابي وأحمد رامي
هذا التلاقي في أرواح المعاناة والتغيير والتشابه في الأفكار الإنسانية
وإن لم يتحقق التكافؤ في الطرح والإبداع
لأن الرجل عاش في بادية ليس للقلم والكتاب فيها مكان ..
أقول كل هذا يجعلنا نحزن على كوكبة من كبارنا الراحلين
لأن الحياة لم تمكنهم من تسجيل أسماءهم في قوائم المشاهير
من أهل الأدب وغيرهم وذلك لغياب العلم وإن توفرت الموهبة
هذه إذاً صورة مقربة وإن كانت قاتمة الألوان عن الشاعر والفنان والرجل الذي
حفظ المحبون أشعاره ومفرداته ووجدانياته
وتسامروا بها في مجالسهم ورددها الرعاة فوق شوامخ الجبال وامتداد السهول
عاش
القلف كبقية ربعه في بادية جافة
وغالب ظروف الحياة القاسية وشظف العيش ، وتصارع مع الفقر كثيراً
ولكن يبدو أنه كان صديقاً ثقيلاً لم يستطع الإنفكاك عنه أو الهروب منه
حتى قال (لا تستحي يالفقر فالبيت بيتك)
وداعب صديق له جاء لزيارته في وقت حرج وكفاف شديد
( مرحباً هيل يالعانية عد حث الخطى يوم جات من تنومه إلى بلادنا
لاتشّره على حالتي فانظر الوقت يشعى بنا)
لكن ذلك كله لم يمنع الرجل من نشر قيم الجمال وفنونه بين محبيه وجلسائه
حتى أصبح عندهم من قوت اليوم
كما أن شاعرنا هذا كان على إلمام بحياة المدن وتطورات الأحداث
وكان يدرك ذلك بذكاء العقل وفطنة اللبيب أكثر من حضور البدن ومعايشة المكان
وقد وجه نقداً لاذعاً لشباب ذلك العصر الذين تأثروا ببعض أنماط التمدن المخالف
للقيم والخلاق الفاضلة وصور في ابيات تفيض روعة وحداثة
بعض تلك السلوكيات والمتغيرات الفكرية
فهو ينتقد التارك للصلاة والمتهاون فيها
(وقلنا صل قال ايش الصلاه به)
وكذا ينتقد البنت التي تفضل الغريب والمتمدن لجمال مظهره
دون معرفة لسيرته وكمال رجولته
(وجات بواحد معرف جوابه )
.. تعرض
القلف إلى أمراض مؤلمة وخاصة في آخر حياته
وسافر إلى خارج المملكة للعلاج والتداوي
لكن المرض كان أقوى من حذاقة الأطباء
وعندما لم يزره صديق له وخليل كان يتصافي معه
ويتبادلان الأخوانيات ولطيف الشعر وجه له عتاباً
بقوله ..
الله ينعاك يالعانيه
يوم جانا البلا ثانيه
لمن تجيني تقل مجار
فان قولتك لي يامجار
خير من صحة المانيه
.. وهكذا امتزج الألم بالفن فكان الإبداع
وأنا هنا لم أورد شيئا من أشعار الرجل وفنونه ..
لكنني أتأمل ممن لديه مقدرة صوتية أن يسجل أشعاره
ويلقيها بأصواتها المعروفة والمشهورة ثم يضعها برابط تحت هذه المقالة
لأنها لا تصلح إلأ مغناه وعندها يعرف الجيل الجديد
كم كان الرجل رائعاً جداً رحمه الله